وكالة مهر للأنباء: يُعتبر تنفيذ عملية تبادل الأسرى بين المقاومة الفلسطينية والكيان الصهيوني، ووقف إطلاق النار في قطاع غزة، من اللحظات الفارقة في معادلة الحرب والسلام في الشرق الأوسط؛ لحظة لا ترتبط فقط بالبعد الإنساني لأزمة غزة، بل تحمل في طياتها أيضًا رسائل سياسية وأمنية واستراتيجية عميقة. يُمثل هذا الحدث بحد ذاته مشهدًا لظهور ثلاثة اتجاهات في آن واحد:
المقاومة الفلسطينية التي استطاعت بصمودها إجبار العدو على التراجع، والكيان الصهيوني الذي كان يسعى إلى مخرج كريم من الأزمة بعد عامين من حرب الاستنزاف، والإدارة الأمريكية التي سعت، من خلال ما يُسمى "خطة ترامب للسلام"، إلى تحسين صورتها في المنطقة والمساعدة في إنقاذ حليفها في تل أبيب.
منجاة لنتنياهو على الفرار
كان الاتفاق الأخير، الذي توسطت فيه إدارة ترامب مباشرةً بمشاركة بعض الأطراف العربية في شرم الشيخ، في الواقع "هديةً سياسيةً" أهداها ترامب لبنيامين نتنياهو. فبعد أن واجه هزائم عسكرية متتالية، وأزمة شرعية داخلية، وضغوطًا دولية غير مسبوقة على مدار العامين الماضيين، يرى نتنياهو الآن في وقف إطلاق النار فرصةً لإصلاح وضعه. وكما أشار محللون، سعى ترامب، من خلال طرحه هذه الخطة، إلى توفير سُلّمٍ لإسقاط نتنياهو من شجرة الحرب؛ حربٌ فشلت في تحرير الأسرى الإسرائيليين أو القضاء على وجود المقاومة.
خطة ترامب "سلمية" ظاهريًا، لكنها في الواقع تسعى إلى منح نتنياهو على طاولة المفاوضات تحقيق ما لم يحققه في ساحة المعركة: سلامٌ نسبي، وبقاءٌ سياسي، والحفاظ على صورة إسرائيل كرادع. لهذا السبب، يعتبر العديد من المراقبين اتفاق شرم الشيخ "فشلا تحت غطاء الدبلوماسية" لإسرائيل؛ محاولةً لهندسة هزيمة عسكرية كإنجاز سياسي.
فشل منطق القوة العسكرية
في المقابل، أثبتت المقاومة الفلسطينية، بصمودها لمدة عامين في وجه أشرس الهجمات، أن القوة العسكرية المطلقة عاجزة عن فرض الإرادة السياسية. وأعلنت كتائب القسام، محقةً، أنه "رغم تفوقها الاستخباراتي والعسكري، فشل العدو في استعادة أسراه عبر الضغط العسكري، واستسلم الآن، وكما وعدت المقاومة، لن يعيد الأسرى الإسرائيليين إلا عبر المفاوضات".
تعلمت إسرائيل من هذه الحرب أن العمليات العسكرية، حتى مع التغطية الاستخباراتية الكاملة والدعم اللوجستي من الولايات المتحدة، لا يمكنها تغيير مصير ساحة المعركة كليًا. إن إطلاق سراح الأسرى عبر المفاوضات والاتفاقات هو اعتراف ضمني من تل أبيب بفشل استراتيجية "اللجوء إلى القوة"، وهي الاستراتيجية نفسها التي شكلت العمود الفقري لأمن إسرائيل منذ عام 1948.
من معركة الميدان إلى معركة الشرعية
لتبادل الأسرى بُعد رمزي ونفسي أيضًا. بينما حاولت إسرائيل تصوير المقاومة كقوة "إرهابية"، أظهر تحقيق هذا الاتفاق أنها اضطرت للجلوس على طاولة واحدة مع القوة ذاتها التي أنكرت شرعيتها. بعبارة أخرى، من خلال هذه العملية، ارتقت المقاومة من مستوى جماعة عسكرية إلى مستوى فاعل سياسي؛ فاعل قادر على فرض إرادته عبر المفاوضات ووقف إطلاق النار والاتفاقات. هذا التحول يُغيّر أيضًا النظرة العالمية لحماس وفصائل المقاومة الأخرى، وقد يُمهّد الطريق لإعادة تعريف دورها في البنية السياسية المستقبلية لفلسطين.
في المقابل، تواجه إسرائيل أزمة شرعية مزدوجة: سواءً في مواجهة الرأي العام العالمي، الذي شهد الجرائم الإنسانية في غزة، أو في مواجهة مجتمعها الداخلي، الذي يرى في الفشل في إطلاق سراح الأسرى عسكريًا انهيارًا لـ"هيبة الجيش الذي لا يُقهر".
الرسالة الإنسانية والاجتماعية لتبادل الأسرى
من منظور إنساني، كانت عودة الأسرى الفلسطينيين عام 1986 إلى وطنهم وعائلاتهم لحظة تاريخية. لم تكن مشاهد الاستقبال في مستشفى ناصر خان يونس لحظة فرح فحسب، بل كانت أيضًا رمزًا لانتصار الروح الجماعية لأهل غزة. أظهر هذا الحدث أنه رغم عامين من الجوع والتشريد والحصار، لم ينهار المجتمع الفلسطيني من الداخل، بل حافظ على قدرته على المقاومة المدنية والاجتماعية. في الأدبيات السياسية، يمكن اعتبار هذه الظاهرة "انتصارًا لسردية المقاومة على سردية الدمار"، سردية انبثقت من قلب الأنقاض وما زالت تحمل الأمل. إن عودة هؤلاء الأسرى هي في الواقع عودة للذاكرة الجماعية إلى مسرح النضال، لأن كل واحد منهم أصبح شاهدًا حيًا على الجريمة والصمود.
خاتمة
يمكن اعتبار تبادل الأسرى بموجب اتفاقية شرم الشيخ نقطة تحول في تاريخ فلسطين المعاصر؛ نقطة استطاعت فيها المقاومة، بصمودها منقطع النظير، أن تغير معادلة القوة، وأن تُظهر أن إرادة الشعوب قادرة على الغلبة على آلة الحرب. من ناحية أخرى، ورغم أن اتفاق ترامب حاول تصوير نتنياهو بمظهر المنتصر، إلا أنه في الواقع كان تأكيدًا على فشل الاستراتيجية العسكرية الإسرائيلية. والسؤال الرئيسي الآن هو: هل سيؤدي وقف إطلاق النار هذا إلى سلام دائم، أم أنه مجرد فرصة لتجديد قوات الاحتلال؟ تُظهر التجربة التاريخية أن إسرائيل لم تكن وفية لأي اتفاق. وتصريحات مسؤولي الكيان، بمن فيهم نتنياهو ووزير الدفاع، بأن عملية "تدمير حماس" و"تدمير الأنفاق" ستستمر، تُشير إلى النوايا الحقيقية لتل أبيب. لذلك، لا يزال هناك خطر العودة إلى الصراع أو تطبيق انتقائي لبنود الاتفاق.
بقلم: "محمدرضا مرادي، رئيس التحرير للقسم الدولي لوكالة مهر للأنباء"
تعليقك